فصل: تفسير الآية رقم (234)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏230‏]‏

‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقاً، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذٍ يكون ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ متعلقاً بقوله سبحانه ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9 22‏]‏ تفسيراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ لا متعلقاً بآية الخلع ليلزم المحذور، ويكون ذكر الخلع اعتراضاً لبيان أن الطلاق يقع مجاناً تارة وبعوض أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ‏}‏ أي من بعد ذلك التطليق ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ أي تتزوّج زوجاً غيره، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من ‏(‏زوجاً‏)‏، والجماع من ‏(‏تنكح‏)‏، وبتقدير عدم الفهم، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة‏؟‏ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ فيجامعها فإن طلقها بعدما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجاً فلو كانت أمة وطلقت ألبتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول‏.‏ وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجاً غيره وعلى أنّ الولي ليس شرطاً في النكاح لأنه أضاف العقد إليها، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر‏.‏ ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها ألبتة لأنه وإن كان جائزاً شرعاً لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال‏.‏

والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين، واستدلوا على ذلك بما أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أخبركم بالتيس المستعار‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قال‏:‏ هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له»

وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما»، والبيهقي عن سليمان بن يسار «أن عثمان رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما، وقال‏:‏ لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة»، وعندنا هو مكروه والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وفي تسمية ذلك محللاً ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسباً أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل‏:‏ إن فاعل ذلك مأجور‏.‏

‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ الزوج الثاني ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ أي على الزوج الأول والمرأة ‏{‏أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة ‏{‏إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم ههنا قيل‏:‏ غير صحيح لفظاً ومعنى، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقيناً في الأكثر، وأما لفظاً فلأن ‏(‏إن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقن في بعض الأمور وهو يكفي للصحة، وبأن سيبويه أجاز وهو شيخ العربية ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعاً لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة ‏{‏يُبَيّنُهَا‏}‏ بهذا البيان اللائق، أو سيبينها بناءاً على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل ذلك، أو حال من ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ والعالم معنى الإشارة، وقرىء ‏{‏نبينها‏}‏ بالنون على الالتفات ‏{‏يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل كما قيل أو لأنهم المنتفعون بالبيان، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون، أو ليخرج غير المكلفين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏231‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي آخر عدتهن فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا‏:‏ إن الأجل حقيقة في جميع المدة كما يفهمه كلام الصحاح وهو الدائر في كلام الفقهاء، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس والبلوغ في الأصل الوصول وقد يقال للدنوّ منه وهو المراد في الآية وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيهاً للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه‏.‏

‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذٍ غير زوجة له ولا في عدّته فلا سبيل له عليها والإمساك مجاز عن المراجعة لأنها سببه والتسريح بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك، والمعنى فراجعوهن من غير ضرار أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهنّ من غير تطويل، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناءاً لشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه، ومن الناس من حمل الإمساك بالمعروف على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة والتسريح بالمعروف على ترك العضل عن التزوّج بآخر، وحينئذٍ لا حاجة إلى القول بالمجاز في ‏{‏بَلَغْنَ‏}‏ ولا يخفى بعده عن سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلاً من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏ تأكيد للأمر بالإمساك بالمعروف وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات؛ وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه، و‏(‏ ضراراً‏)‏ نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارّة أو مضارين، ومتعلق النهي القيد واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّتَعْتَدُواْ‏}‏ متعلق بـ ‏{‏ضِرَارًا‏}‏ أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء، واعترض بأن الضرار ظلم والاعتداء مثله فيؤول إلى‏:‏ ولا تمسكوهن ظلما لتظلموا وهو كما ترى، وأجيب بأنّ المراد بالضرار تطويل المدة وبالاعتداء الإلجاء، فكأنه قيل‏:‏ لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدّي إلى ظلم آخر، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأوّل في ‏{‏ضِرَارًا‏}‏ ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف، أو على البدل وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني، وجوّز تعلقه بالفعل مطلقاً إذا جعلت اللام للعاقبة، ولا ضرر في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت اللام حقيقة فيهما على رأي‏.‏

‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد ‏{‏فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ بتعريضها للعذاب، أو بأن فوّت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ ءايات الله‏}‏ المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها ‏{‏هُزُواً‏}‏ مهزوءاً بها بأن تعرضوا عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن، وهذا نهي أريد به الأمر بضده، أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها‏.‏ وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال‏:‏ كان الرجل يطلق ثم يقول‏:‏ لعبت ويعتق، ثم يقول‏:‏ لعبت فنزلت، وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث هزلهنّ جد النكاح والطلاق والرجعة» وعن أبي الدرداء‏:‏ «ثلاث اللاعب فيها كالجاد، النكاح والطلاق والعتاق» وعن عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ «أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح»

‏{‏واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والنعمة إمّا عامة فعطف ‏{‏وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم‏}‏ عليها من عطف الخاص على العام، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضراراً من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل‏:‏ جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيداً على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة وهو قريب من عطف التفسير ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل‏:‏ ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز المنع، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالاً من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاء التأنيث لأنه مبني عليها كما في قوله‏:‏

فلولا رجاء النصر منك وهيبة *** عقابك قد كانوا لنا كالموارد

والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيهاً للمأمورين وتشريفاً لهم، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة حذف عائدها من الصلة، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ الكتاب والحكمة‏}‏ بيانية، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهاراً للفضل وإيماءاً إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل‏:‏

فإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال

‏{‏يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بما أنزل حال من فاعل ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أو من مفعوله، أو منهما معاً، وجوّز أن يكون ‏{‏مَا‏}‏ مبتدأ وهذه الجملة خبره و‏{‏مّنَ الكتاب‏}‏ حال من العائد المحذوف، وقيل‏:‏ الجملة معترضة للترغيب والتعليل‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في أوامره والقيام بحقوقه ‏{‏واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ‏}‏ فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه، أو أنه عليم بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحداً معه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏232‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أزواجهن‏}‏ أي لا تمنعوهن ذلك، وأصل العضل الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج، والفعل مثلث العين، واختلف في الخطاب فقيل واختاره الإمام أنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلماً وقسراً لحمية الجاهلية، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخطبهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه، والعرب كثيراً ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، وقيل واختاره القاضي إنه للأولياء فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال‏:‏ «كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له‏:‏ يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبداً وكان رجلاً لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال‏:‏ ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه» وفي لفظ «فلما سمعها معقل قال‏:‏ سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال‏:‏ أزوجك وأكرمك» وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجاً وخطاب التطليق حينئذٍ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما يبنىء عنه التصدي للعضل، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالاً على ظهور المعنى، وقيل‏:‏ واختاره الزمخشري إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعاً، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الإسنادين مع المطابقة لسبب النزول، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة‏:‏ أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعاً لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر، وجوز في أن ‏(‏ينكحن‏)‏ وجهان‏:‏ الأول‏:‏ أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين‏.‏

‏{‏إِذَا تراضوا‏}‏ ظرف للا تعضلوا والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي، وقيل ظرف لأن ينكحن‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بما لا يكون مستنكراً شرعاً ومروءة، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالاً من فاعل ‏{‏تراضوا‏}‏ أو نعتاً لمصدر محذوف أي تراضياً كائناً بالمعروف وإما بتراضوا أو بينكحن؛ وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من باب العضل ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيراً وغيرهما‏.‏ والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى‏.‏

‏{‏يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر‏}‏ خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالاً لله تعالى وخوفاً من عقابه، و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ إما متعلق بكان على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالاً من فاعل ‏{‏يُؤْمِنُ‏}‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه ‏{‏أزكى لَكُمْ‏}‏ أي أعظم بركة ونفعاً ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ أي أكثر تطهيراً من دنس الآثام، وحذف لكم اكتفاءً بما في سابقه، وقيل‏:‏ إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما فيه من المصلحة ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فلا رأي إلا الاتباع، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين ويدخل فيه المذكور دخولاً أولياً وفائدة الجملة الحث على الامتثال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج عليه بأمرين‏:‏ الأول‏:‏ أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالباً على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاءاً له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيراً ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني‏:‏ أن إيجاب الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع، وقال الواحدي‏:‏ الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب؛ وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أنه على ما قيل‏:‏ ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال‏:‏ إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثاً على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر‏.‏

‏{‏حَوْلَيْنِ‏}‏ أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية و‏{‏كَامِلَيْنِ‏}‏ صفته، ووصف بذلك تأكيداً لبيان أن التقدير تحقيق لا تقريبي مبني على على المسامحة المعتادة ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏ بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقاً بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجباً على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضاً في الصور السابقة‏.‏ واستدل بالآية على أنّ أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما، وقرىء ‏{‏أَن يُتِمَّ‏}‏ بالرفع واختلف في توجيهه فقيل‏:‏ حملت ‏(‏أن‏)‏ المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الأعمال في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كما تكونوا يولى عليكم» على رأي، وقيل‏:‏ أن يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم‏.‏

‏{‏وَعلَى المولود لَهُ‏}‏ أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجاً عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل‏:‏ عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولاً واحداً وحكم العبيد دخيل في البين ‏{‏رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ‏}‏ أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه‏.‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب ‏{‏وُسْعَهَا‏}‏ على أنه مفعول ثان لتكلف وقرىء و‏(‏ لا تكلف‏)‏ بفتح التاء و‏(‏ لا نكلف‏)‏ بالنون‏.‏

‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ بِوَلَدِهِ‏}‏ تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئراً مثلاً ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة، والمعنى لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ‏(‏لا تضار‏)‏ بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ الحسن ‏(‏تضار‏)‏ بالكسر وأصله تضار مكسور الراء مبنياً للفاعل وجوز فتحها مبنياً للمفعول، ويبين ذلك أنه قرىء ‏(‏ولا تضارر‏)‏، ‏(‏ولا تضارر‏)‏ بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد النهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعدما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ أبو جعفر ‏(‏لا تضار‏)‏ بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج ‏(‏لا تضار‏)‏ بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنه ‏(‏لا تضرر‏)‏ والتعبير بالولد في الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن غريب التفسير ما رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنى لا تضار والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع ولا يضار مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده، وحينئذٍ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب‏.‏

‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ‏}‏ الخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال، وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن أل كالعوض عن المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود ‏(‏وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك‏)‏، وقيل‏:‏ عصباته؛ وبه قال أبو زيد، ويروى عن عمر رضي الله تعالى عنه ما يؤيده، وقال الشافعي‏:‏ المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن هذا الحمل يأباه أنه لا يخص كون المؤنة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر، وقيل‏:‏ المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني» قيل‏:‏ وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن من إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقاً لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فَإِنْ أَرَادَا‏}‏ أي الوالدان ‏{‏فِصَالاً‏}‏ أي فطاماً للولد قبل الحولين وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل‏:‏ قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول‏:‏ يكون هذا تفصيلاً لفائدة ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ‏}‏ وبياناً لحكم إرادة عدم الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه فصال غير معتاد، وعلى الثاني‏:‏ توسعة في الزيادة والتقليل في مدة الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظراً للصبي لما فيه من مفارقة المألوف ‏{‏عَن تَرَاضٍ‏}‏ متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كوناً خاصاً أي‏:‏ صادراًعن تراض وجوز أن يتعلق بأراد ‏{‏مِنْهُمَا‏}‏ أي الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب ‏{‏وَتَشَاوُرٍ‏}‏ في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل وكذا المشاورة والمشورة والمشورة والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له‏.‏

‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُّمُ‏}‏ خطاب للآباء هزاً لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام ‏{‏أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏ بحذف المفعول الأول استغناءاً عنه أي تسترضعوا المراضع أولادكم من أرضعت المرأة طفلاً واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الإنجاء والاستعتاب لطلب الاعتاب وصرح به غيره أيضاً فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل‏:‏ إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال‏:‏ استرضعت المرأة للصبي والمراد‏:‏ أن تسترضعوا المراضع لأولادكم فحذف الجار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 3‏]‏ أي كالوا لهم ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع وهو مذهب الشافعية، وعندنا أن الأم أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب ‏{‏إِذَا سَلَّمْتُم‏}‏ إلى المراضع ‏{‏مَّا ءاتَيْتُم‏}‏ أي ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن كثير ‏(‏أتيتم‏)‏ من أتى إليه إحساناً إذا فعله، وشيبان عن عاصم ‏(‏أوتيتم‏)‏ أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة ‏{‏بالمعروف‏}‏ متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالاً من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم شرطاً لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له عبارته، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقاً غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير، وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي، والاسترضاع كان قبل خالياً عما يوجب الإثم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في شأن مراعاة الأحكام ‏{‏واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏234‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

‏{‏والذين‏}‏ مبتدأ ‏{‏يُتَوَفَّوْنَ‏}‏ أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال‏:‏ توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم ‏{‏يُتَوَفَّوْنَ‏}‏  بفتح الياء أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفي بمعنى مستوف لحياته، واستشكل بما حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل‏:‏ من المتوفي‏؟‏ بكسر الفاء فقال‏:‏ الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم الله تعالى وجه على أن أمره بوضع كتاب النحو، وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجهه صحته فلم يصلح للخطاب به ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال من مرفوع ‏{‏يُتَوَفَّوْنَ‏}‏ ومن تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب ‏{‏وَيَذَرُونَ‏}‏ أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ ‏{‏أزواجا‏}‏ أي نساءاً لهم‏.‏

‏{‏يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ‏}‏ خبر عن ‏(‏الذين‏)‏ والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم، ورجح الأول‏:‏ بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى، وقيل‏:‏ خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن، والجملة خبر ‏(‏الذين‏)‏ وبعض البصريين قدر مضافاً في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم، وفيه أنه لا يبقى ليذرون أزواجاً فائدة جديدة يعتد بها، ويروى عن سيبويه أن ‏(‏الذين‏)‏ مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين الخ، وحينئذٍ يكون جملة يتربصن بياناً لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف، وذهب بعض المحققين إلى أن ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ و‏(‏ يتربصن‏)‏ خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده، والقول بأنه لعل المقتضي لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهاراً إذ ربما تضعف حركته في المبادىء فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة للحديث الصحيح «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله تعالى ملكاً بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح» لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقاً لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، وتأنيث العشر قيل‏:‏ لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى بن سعيد، وقيل‏:‏ بل هو باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهاباً إلى الأيام حتى إنهم يقولون كما حكى الفراء صمنا عشراً من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 103‏]‏ ثم ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 4 10‏]‏ وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود، وأما عند حذفه فيجوز الأمران مطلقاً ولعله أولى مما قيل، واستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفى عنها سواء كان مدخولاً بها أو لا، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة كما قاله الأصم والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الاحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطاً وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين، واستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه، ويؤيده أنّ الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدّتها هذه المدّة، وقيل‏:‏ إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدّتها بهذه الأيام لما روي «امرأة المفقود امرأة حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه»‏.‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ أي انقضت عدّتهن ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أيها القادرون عليهن، وقيل‏:‏ الخطاب للأولياء، وقيل‏:‏ لجميع المسلمين ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ‏}‏ مما حرّم عليهنّ في العدّة، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره، وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهنّ، فإن قصروا أثموا ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به والظاهر‏:‏ أنّ المخاطب به هو المخاطب في سابقه، وجوّز أن يكون خطاباً للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان الخطاب على الغيبة والذكور على الإناث وفيه تهديد للطائفتين، ويحتمل أن يكون وعداً ووعيداً لهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أيها الرجال المبتغون للزواج‏.‏ ‏{‏فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء‏}‏ بأن يقول أحدكم كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إني أريد التزوّج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإنّ من شأني النساء، ولوددت أنّ الله تعالى كتب لي امرأة صالحة، أو يذكر للمرأة فضله وشرفه، فقد روي «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أمّ سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها وكان ذلك تعريضاً لها» والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب، واستعمل في أن تذكر شيئاً مقصوداً في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصوداً بلفظ آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع لا على وجه القصد بل لينتقل منه إلى الشيء المقصود، فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة، وقرّر بعض المحققين أنّ بينهما عموماً من وجه، فمثل قول المحتاج‏:‏ جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل زيد طول النجاد كناية لا تعريض، ومثل قولك‏:‏ في عرض من يؤذيك وليس المخاطب آذيتني فستعرف تعريض بتهديد المؤذي لا كناية والمشهور‏:‏ تسمية التعريض تلويحاً لأنه يلوح منه ما تريده، وعدوا جعل السكاكي له اسماً للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل كثير الرماد للمضياف اصطلاحاً جديداً وفي «الكشف»‏:‏ وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد، ويجعل الالتفات في التعريض نحو المعرّض به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 4‏]‏ فلا ينتهض نقضاً على الأصل‏.‏

والخطبة بكسر الخاء قيل‏:‏ الذكر الذي يستدعى به إلى عقد النكاح أخذاً من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام وبضمها الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل‏:‏ إنهما اسم الحالة غير أنّ المضمومة خُصت بالموعظة والمكسورة بطلب المرأة والتماس نكاحها وأل في ‏(‏النساء‏)‏ للعهد، والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34 2‏]‏ ولا يمكن حملها على الاستغراق لأنّ من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدّة كالرجعيات والبائنات في قول، والأظهر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في عدّتهنّ قياساً على معتدات الوفاة لا يقال‏:‏ كان ينبغي أن تقدّم هذه الآية على قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 23‏]‏ لأنّ ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول‏:‏ لا نسلم ذلك، بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهنّ قبل البلوغ من الأجل وبعده، واستدل إلكيا بالآية على نفي الحدّ بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفاً لحكم التصريح، وأيد بما روي‏:‏ «من عرض عرضنا، ومن مشى على الكلأ ألقيناه في النهر» واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدّة لها، ولا يخفى ما فيه ‏{‏أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضي عدّتهنّ ولم تصرحوا بذلك لهنّ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ ولا تصبرون على السكوت عنهنّ وعن إظهار الرغبة فيهنّ، فلهذا رخص لكم ما رخص، وفيه نوع ما من التوبيخ‏.‏

‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا‏}‏ استدراك عن محذوف دل عليه ‏{‏سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏ أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحاً بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن ‏{‏لاَّ جُنَاحَ‏}‏ فإنه في معنى عرّضوا بخطبتهنّ أو أكنوا في أنفسكم ولكن الخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده، ليس بشيء وإرادة النكاح من السر بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر، ومنه قول امرىء القيس‏:‏

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي

وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم يجعل من أوّل الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر، والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ السر هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح بالنكاح مما لا يكاد يخطر ببال، وعن سعيد بن جبير ومجاهد، وروي عن الحبر أيضاً أنه العهد على الامتناع عن التزوّج بالغير وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية وجوّز انتصابه على الظرفية، أي‏:‏ لا تواعدوهنّ في السر، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن‏.‏

‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏ وهو التعريض الذي عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي‏:‏ لا تواعدوهن نكاحاً مواعدة ما إلا مواعدة معروفة؛ أو إلا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أي طلب الامتناع عن الغير إلا قولكم قولاً معروفاً والاستثناء في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأوّل تصريح بما فهم من ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ‏}‏ على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد والعكس حسن وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا التعريض فيهما على التعريض بالوعد لها أو الطلب منها، وهو غير التعريض السابق لأنه بنفس الخطبة وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى‏:‏ لا تواعدوهنّ بالمستهجن ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من ‏{‏سِرّا‏}‏ وضعف بأنه يؤدّي إلى كون التعريض موعوداً، وجعله من قبيل

‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 11‏]‏ يأبى أن يكون استثناءاً منه بل من أصل الحكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح‏}‏ أي لا تقصدوا قصداً جازماً عقد عقدة النكاح وفي النهي عن مقدّمة الشيء نهي عن الشيء على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم المقارن لأن من قال‏:‏ لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل، والعقدة ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3 2‏]‏ وعلى كل تقدير هي مفعول به، وجوز أن تكون مفعولاً مطلقلاً على أن معنى لا تعزموا لا تعقدوا فهو على حد قعدت جلوساً وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل‏:‏ المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلاً، وفيه بحث أما أولاً‏:‏ فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول الزمخشري‏:‏ حقيقة العزم القطع بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل ‏"‏ وروي «لم يبيت» ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعة بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد، وأما ثانياً‏:‏ فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل‏:‏ إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز‏.‏

‏{‏حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ‏}‏ أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك ‏{‏فاحذروه‏}‏ ولا تعموا عليه أو احذروه بالاجتناب عن العزم ابتداءاً أو إقلاعاً عنه بعد تحققه ‏{‏واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهى عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناءاً بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏236‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ لا تبعة من مهر وهو الظاهر، وقيل‏:‏ من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض، وقيل‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما ينهى عن الطلاق فظن أن فيه جناحاً فنفى ذلك ‏{‏إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ أي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع، وقرأ حمزة والكسائي ‏(‏تماسوهن‏)‏ والأعمش ‏(‏من قبل أن تمسوهن‏)‏ وعبد الله ‏(‏من قبل أن تجامعوهن‏)‏ ‏{‏أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ أي‏:‏ حتى تفرضوا أو إلا أن تفرضوا على ما في «شروح الكتاب»، و‏(‏ فريضة‏)‏ فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز، وجوز أن يكون نصباً على المصدرية، وليس بالجيد والمعنى إنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلاً إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل، وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى، وفي صورة عدمها تمام مهر المثل، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر، قيل‏:‏ وههنا إشكال قوى، وهو أن ما بعد ‏(‏أو‏)‏ التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أو تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلا الاعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح، وليس المعنى عليه، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل‏:‏ أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذا فرضت الفريضة فيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل، ومن الناس من جعل كلمة ‏(‏أو‏)‏ عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم، ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم مسيس، ولا فرض على حد ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 42‏]‏ واعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس، ولا يخفى أنه غير وارد، ولا حاجة إلى القول بأن ‏(‏أو‏)‏ بمعنى الواو كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 7 14‏]‏ على رأي ‏{‏وَمَتّعُوهُنَّ‏}‏ أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل‏:‏ إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن، وعطف الطلبي على الخبري على ما في «الكشف» لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك، أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن، وجوزَ أن يكون عطفاً على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون اعتراضاً بالواو وارداً لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد التطليق، والعطف على حذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف، والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى‏:‏

‏{‏عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ‏}‏ أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائناً ما كان، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهماً، وقال الإمام أبو حنيفة‏:‏ هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا أكثر ماله واتسعت حاله، والمقتر من يكون ضيق الحال من أقتر إذا افتقر وقلّ ما في يده وأصل الباب الإقلال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق إيساراً وإقراراً والجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل ‏{‏متعوهن‏}‏، والرابط محذوف أي منكم، ومن جعل الألف واللام عوضاً عن المضاف إليه أي على موسعكم الخ استغنى عن القول بالحذف‏.‏

وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر‏.‏ وابن ذكوان ‏{‏حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ بفتح الدال، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه، وقيل‏:‏ القدر بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار، وقرىء ‏{‏قَدْرِهِ‏}‏ بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى ‏{‏متعوهنّ‏}‏ الخ ليؤد كل منكم قدر وسعه قال أبو البقاء‏:‏ وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قدره‏.‏

‏{‏لاّزْوَاجِهِم متاعا‏}‏ اسم مصدر أجري مجراه أي تمتيعاً ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي متلبساً بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة  لمتاعاً و‏{‏حَقّاً‏}‏ أي ثابتاً صفة ثانية له ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً أي حق ذلك حقا ‏{‏عَلَى المحسنين‏}‏ متعلق بالناصب للمصدر أوبه أو بمحذوف وقع صفة، والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتباراً للمشارفة ترغيباً وتحريضاً‏.‏

وقال الإمام مالك‏:‏ المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب؛ وعندنا هي واحبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 24‏]‏ لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس، وجعله مقدماً على المفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر المحسن على المتطوع بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفاً للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ ‏(‏حقاً‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏237‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس، وجملة ‏{‏وَقَدْ‏}‏ الخ إما حال من فاعل ‏{‏طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏ أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضاً فيما سبق ‏{‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر، وقرىء ‏(‏فنصف‏)‏ بالنصب على معنى فأدّوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام، وذكر الأشق فالأشق، والقول بأن ذلك لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أمتعتها‏؟‏ قال‏:‏ لم يكن عندي شيء قال‏:‏ متعها بقلنسوتك ‏"‏ مما لا أراه شيئاً على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي‏:‏ لم أقف عليه‏.‏

‏{‏إَّلا أَن يَعْفُونَ‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معيناً في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حد ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه ‏{‏ءانٍ‏}‏ هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ‏}‏ وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد‏:‏

أبى الله أن أسمو بأم ولا أب *** ‏{‏الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏ وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في «الأوسط»‏.‏ والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعاً وبه قال جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومعنى عفوه تركه تكرماً ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملاً على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتسمية ذلك عفواً من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9 21‏]‏ وقول زهير‏:‏

حزماً وبراً للإله وشيمة *** تعفو على خلق المسيء المفسد

فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط، أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في ‏{‏فَنِصْفُ‏}‏ غير ملاحظ فيه الوجوب، وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الاستثناء منقطعاً لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله القديم إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقاً في رأي الآخرين وإن أبت‏.‏ والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعاً، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعد واللام للتعدية، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علماً أو جهلاً تعدى بالباء كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول بفي كهو أحب في بكر وأبعض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى كزيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه، وقرىء ‏(‏وأن يعفوا‏)‏ بالياء‏.‏

‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏ عطف على الجملة الإسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي، والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 22‏]‏ في الدرج الأسفل من الضعف، وقيل‏:‏ إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أي لا تنسوا الإحسان الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة الإحسان صاحبه عليه، وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ولا تناسوا وبعضهم ولا تنسوا بسكون الواو‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فلا يكاد يضيع ما عملتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏238‏]‏

‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏‏}‏

‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات‏}‏ أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو، والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيىء النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة عل خلقه، وقيل‏:‏ أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذاناً بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل‏:‏ لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين‏.‏

‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس بلا زيادة دون الثاني، وفي تعيينها أقوال‏:‏ أحدها أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار، الثاني أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن علي والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية والثالث‏:‏ أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنه وسط في الطول والقصر والرابع‏:‏ أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا يقصران‏.‏ والخامس‏:‏ أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي الله تعالى عنه نفسه، وقيل‏:‏ المراد بها صلاة الوتر، وقيل‏:‏ الضحى، وقيل‏:‏ عيد الفطر، وقيل‏:‏ عيد الأضحى، وقيل‏:‏ صلاة الليل، وقيل‏:‏ صلاة الجمعة، وقيل‏:‏ الجماعة، وقيل‏:‏ صلاة الخوف ‏(‏وقيل، وقيل‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما أخرج مسلم من حديث علي كرم الله تعالى وجهه «أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب‏:‏ شغلونا عن الصلاة والوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم ناراً» وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب، قال بعض المحققين‏:‏ والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان‏:‏ مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعاً وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال قسمان‏:‏ مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها فقوله من حديث مسلم‏:‏

‏"‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ فيه احتمالان، أحدهما‏:‏ أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعاً بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيراً منه كما وقع ذلك كثيراً في أحاديث، ويؤيده ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ ‏"‏ حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ‏"‏ يعني العصر، الثاني‏:‏ على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بياناً ولا بدلاً والتقدير شغلونا عن الصلاة والوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر، وإذا تعارض الحديثان، ولم يكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف حديث «شغلونا» الخ فوجب الرجوع إليه، وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت‏:‏ ‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏» وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضاً «أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات‏}‏ الخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم ‏"‏ ويؤكد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال‏:‏ «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً فأملت علي ‏(‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر‏)‏ وقالت‏:‏ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم» والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضاً عن عمرو بن رافع قال‏:‏ «كنت أكتب مصحفاً لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأملت عليّ ‏(‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر‏)‏ وأخرج ابن أبي داود في «المصاحف» عن عبد الله بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفاً فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة» وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضاً عن أبي رافع مولى حفصة قال‏:‏ «كتبت مصحفاً لحفصة فقالت اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر فلقيت أبيّ بن كعب فقال‏:‏ هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا» وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا، وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله تعالى وأخفاها في جملة ‏(‏الصلوات‏)‏ المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان‏.‏

واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة؛ وقرأ عبد الله وعلي الصلاة الوسطى وروي عن عائشة ‏(‏والصلاة‏)‏ بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ نافع ‏(‏الوصطى‏)‏ بالصاد‏.‏

‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ‏}‏ أي في الصلاة ‏{‏قانتين‏}‏ أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناءاً على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل‏:‏ خاشعين، وقيل‏:‏ مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في «صحيحه» بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال‏:‏ «كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد على فلما قضي الصلاة قال‏:‏ ‏"‏ إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة ‏"‏ وقال ابن المسيب‏:‏ المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏239‏]‏

‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ من عدوّ أو غيره ‏{‏فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين، والأول جمع راجل، وهو الماشي على رجليه ورجل بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه، وقيل‏:‏ الراجل الكائن على رجليه واقفاً أو ماشياً، واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة وإن لم يمكن الوقوف، وذهب إمامنا إلى أن المشي وكذا القتال يبطلها، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمناً، فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوى من الليل حتى كفينا القتال وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَفَى الله المؤمنين القتال‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5 2‏]‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وفي لفظ «فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها» وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع وهي قبل الخندق كما قاله ابن إسحق وغيره من أهل السير، وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقاً ولو شديداً شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير، ويجعل ناسخاً لما في الآية كما قيل والمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2 10‏]‏ لا صلاة شدّة الخوف المبينة بهذه الآية، والنزاع إنما هو فيها وهي لم تشرع قبل الخندق بل بعده وفيه كان الخوف شديداً فلا يضر التأخير، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصاً في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراجل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة، وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية، وأنت تعلم إذا أنصفت أنّ ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق «وقوموا والدين يسر لا عسر» والمقامات مختلفة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك لا يترك فليفهم‏.‏ وقرىء ‏(‏رجالاً‏)‏ بضم الراء مع التخفيف، وبضمها مع التشديد وقرىء ‏{‏فرجلا‏}‏ أيضاً‏.‏

‏{‏رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ وزال خوفكم‏.‏ وعن مجاهد إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة ولعله على سبيل التمثيل ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ أي فصلوا صلاة الأمن كما قال ابن زيد وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقيل‏:‏ المراد أشكروه على الأمن وبعضهم أوجب الإعادة، وفسر هذا بأعيدوا الصلاة وهو من البعد بمكان ‏{‏كَمَا عَلَّمَكُم‏}‏ أي ذكراً مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الأمن والخوف أو شكراً يوازي ذلك، و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية وجوّز أن تكون موصولة وفيه بعد‏.‏

‏{‏مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْمَلُونَ‏}‏ مفعول علمكم وزاد ‏{‏تَكُونُواْ‏}‏ ليفيد النظم، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 5‏]‏ فقيل‏:‏ الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان، وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته، وتصدير الثانية بـ ‏(‏إذا‏)‏ المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلاً مستدعياً لإجراء مقتضى المقام الأوّل في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل ما فيه عبرة لذوى الأبصار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏240‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏ عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق، وفي ‏{‏يُتَوَفَّوْنَ‏}‏ مجاز المشارفة ‏{‏وَصِيَّةٍ‏}‏ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب ‏{‏بَعْدِ وَصِيَّةٍ‏}‏ على المصدرية، أو على أنها مفعول به، والتقدير ليوصوا أو يوصون وصية أو كتب الله تعالى عليهم، أو ألزموا وصية ويؤيد ذلك قراءة عبد الله ‏(‏كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعاً إلى الحول‏)‏ مكان ‏{‏والذين‏}‏ الخ، وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية ‏(‏الذين يتوفون‏)‏ أو حكمهم وصية أو ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ‏}‏ أهل وصية، وجوّز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدّم عليه أي‏:‏ كتب عليهم أو عليهم وصية وقرأ أبيّ ‏(‏متاع لأزواجهم‏)‏، وروي عنه ‏{‏فمتاع‏}‏ بالفاء‏.‏

‏{‏متاعا إِلَى الحول‏}‏ نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال، وإلا فبالوصية لأنها بمعنى التوصية، وبمتاع على قراءة أبيّ لأنه بمعنى التمتع ‏{‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏ بدل منه بدل اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع ‏{‏إِلَى الحول‏}‏ وبين غير الإخراج وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات، ومتغايران بالوصف، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بدّ من تقدير مضاف إلى غير تقديره‏:‏ متاعاً إلى الحول متاع غير إخراج وإلا لم يصح لأن متاعاً مفسر بالإنفاق، ‏{‏وَغَيْرُ إِخْرَاجٍ‏}‏ عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدلول الأوّل، ولا جزأه، ولا ملابساً له، فيكون بدل غلط وهو لا يصح في الكلام المجيد فيتعين التقدير، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قيبل إبدال الكل من الجزء نحو رأيت القمر فلكه وهو بدل الاشتمال كما صرح به صاحب «المفتاح» وأجيب بأنا لا نسلم أنّ متاعاً مفسر بالإنفاق فقط بل المتاع عام شامل للإنفاق والإسكان جميعاً، فيكون ‏{‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏ عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من ‏{‏متاعا‏}‏ فيكون بدل البعض من الكل، وجوّز أن يكون مصدراً مؤكداً لأن الوصية بأن يمتعن حولا يدل على أنهنّ لا يخرجن، فكأنه قيل‏:‏ لا يخرجن غير إخراج ويكون تأكيداً لنفي الإخراج الدال عليه ‏{‏لا يَخْرُجْنَ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ فيؤول إلى قولك‏:‏ لا يخرجن لا يخرجن، وأن يكون حالا من ‏(‏أزواجهم‏)‏ والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد الإيصاء بمفهوم هذه الحالة وأنها مقدّرة لأنّ معنى نفي الإخراج إلى الحول ليس مقارناً للإيصار وفيه تأمّل، وأن يكون صفة ‏(‏متاع‏)‏ أو منصوباً بنزع الخافض، والمعنى‏:‏ يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى، وكان ذلك على الصحيح في أوّل الإسلام ثم نسخت المدّة بقوله تعالى‏:‏

‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ وهو وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخر في النزول وكذا النفقة بتوريثهنّ الربع أو الثمن، واختلف في سقوط السكنى وعدمه، والذي عليه ساداتنا الحنفية الأوّل، وحجتهم أنّ مال الزوج صار ميراثاً للوارث، وانقطع ملكه بالموت، وذهب الشافعية إلى الثاني لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أنّ لها السكنى في مال الزوج، والكلام فيه ‏{‏فَإِنْ خَرَجْنَ‏}‏ بعد الحول، ومضى العدّة، وقيل‏:‏ في الأثناء باختيارهن ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة‏.‏ ‏{‏فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ‏}‏ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج، أو قطع النفقة عنهنّ، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة، وبين الخروج وتركها ‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في الإيصاء وإنفاذ الوصية وغير ذلك ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏241‏]‏

‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏‏}‏

‏{‏وللمطلقات‏}‏ سواء كن مدخولاً بهن أولا ‏{‏متاع‏}‏ أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل، وقيل‏:‏ المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال‏:‏ لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏متاعا بالمعروف حَقّا عَلَى المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ قال رجل‏:‏ إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية ‏{‏بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين‏}‏ أي من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏242‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته‏}‏ الدالة على ما تحتاجون إليه معاشاً ومعاداً ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏243‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأى قصداً إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الأبصار مجازاً عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى الذين‏}‏ كما قاله غير واحد، وقال الراغب‏:‏ إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى لم تنظر عدى تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى‏.‏ وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرىء القيس‏:‏

ألم تر بأني كلما جئت طارقا *** وجدت بها طيباً ولم تتطيب

والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط

‏{‏خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا ‏{‏وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت‏}‏ وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناءاً على أنه لا يقال عشرة ألوف ولا تسعة ألوف وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني‏:‏ إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل والكلبي إنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح إنهم تسعة آلاف، وأبي رءوف إنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل‏:‏ كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، وحكى ذلك عن السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفاً، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ إنهم سبعون ألفاً ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد أن المراد‏:‏ خرجوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ‏}‏ على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل‏:‏ هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع، وقيل‏:‏ ناداهم ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفاً وتهويلاً

‏{‏ثُمَّ أحياهم‏}‏ عطف على مقدر يستدعيه المقام أي‏:‏ فماتوا ثم أحياهم قيل‏:‏ وإنماحذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية، وجوز أن يكون عطفاً على قال لما أنه عبارة عن الاماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمرّ بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نوع، وقيل‏:‏ شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال وهب‏:‏ إنه شمويل وهو ذو الكفل، وقيل‏:‏ يوشع نفسه فوقف متعجباً لكثرة ما يرى منهم «فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام أن الله تعالى يأمركم أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام أن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحماً فاكتست لحماً ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أن الله تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت» والروايات في هذا الباب كثيرة‏.‏

والظاهر أنهم لم يروا في هذا الوت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 6 5‏]‏ الآية لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال كما قال مجاهد وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت، وأيضاً هو من خوارق العادات فلا يرد نقضاً، ومن الناس من قال‏:‏ إن هذا لم يكن موتاً كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الروح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلاً ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما لكنه لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء‏.‏

وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال‏:‏ إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلاً وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين، والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الإحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله

‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ جميعاً، أمّا أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأمّا الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا كالتعليل لما تقدم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير‏:‏ فيجب عليهم أن يشكروا فضله ولكان الخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملاً من الأحكام التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيهاً على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة واستنهاضاً للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق‏.‏ وقيل‏:‏ وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 242‏]‏ ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته، وقيل‏:‏ جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، والحث على التوكل والاستسلام للقضاء

تمهيداً لقوله تعالى‏:‏